لاول مرة وثيقة بريطانية قديمة تكشف حقيقة وعد “بلفور”

9 أكتوبر 2017
لاول مرة وثيقة بريطانية قديمة تكشف حقيقة وعد “بلفور”

كشف المؤرخ العربي بشير نافع، عن وثيقة بريطانية تثبت المقصد الحقيقي للتعهد البريطاني أو ما يعرف بـ”وعد بلفور”، وتؤكد أنه لم يتضمن إقامة دولة يهودية.

جاء ذلك خلال ورقة قدمها، المؤرخ العربي، السبت، في جلسة نظمها موقع “ميدل إيست مونيتور” في العاصمة البريطانية لندن، بمناسبة مرور مائة عام على معاهدة “سايكس بيكو”.

وقال نافع إنه حصل على وثيقة في السجلات البريطانية تتضمن رسالة من أرثر بلفور إلى وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزن أوضح فيها ما كان يعنيه من وعده لليهود، مضيفا أن رسالة بلفور كانت قصيرة ولكنها واضحة وأكد فيها على أن التعهد البريطاني للصهاينة لم يتضمن إقامة دولة يهودية.

وكتب بلفور، بحسب الوثيقة: “على حد علمي، لم يحصل بتاتا أن ادعى وايزمان أن اليهود يهدفون إقامة حكومة في فلسطين. مثل هذا الادعاء، في رأيي، مرفوض بكل تأكيد، وأنا شخصيا لا أعتقد أنه يتوجب علينا الذهاب إلى أبعد مما ورد في الإعلان الأصلي الذي كنت قد تقدمت به إلى اللورد روثتشايلد.

واستعرض المؤرخ العربي، الأسباب التي أدت إلى إعطاء بريطانيا، مستندا بذلك على مراسلات جرت في مطلع عام 1919 بين اللورد بلفور، وزير الخارجية، وزميله في مجلس الوزراء اللورد كيرزن، الذي كان حينها يحتل منصب اللورد رئيس المجلس.

وفيما يلي النص الكامل للورقة التي قدمها، الدكتور بشير نافع تحت عنوان “ملاحظات حول الدوافع خلف إعلان بلفور ودلالاته”، وترجمتها “عربي21“:

منذ زمن وأنا أقلب النظر في الأسباب التي حفزت البريطانيين على تبني إعلان وبلفور وما كان يعنيه الإعلان في الحقيقة. دعوني أبدأ بما نعرفه عن ذلك.

في ربيع عام 1915، طالبت روسيا القيصرية بإلحاح بوجوب أن تدخل بريطانيا وفرنسا في مفاوضات حول مختلف القضايا التي تهم القوى المتحالفة في الحرب في الإمبراطورية العثمانية. جاءت المبادرة الروسية في التحرك لضمان سيطرتهم على مضيقي البوسفور والدردنيل بعد الإنزال البريطاني في شبه جزيرة غاليبولي. ولأن بريطانيا لم تكن تدارست الأمر بعد، قررت الحكومة في لندن تشكيل لجنة يترأسها السير موريس دو بانسن للنظر في الأمر وتحديد الأولويات الإستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط.

وسرعان ما تم التوافق على المصالح الروسية في تراقيا الشرقية وفي المضائق وشرق الأناضول ضمن اتفاقية القسطنطينية، التي أبرمت في آذار/مارس من عام 1915. أما التوافق على المصالح البريطانية والفرنسية فكان أكثر تعقيدا، وكان لابد من التفاوض عليه. بدأت هذه المفاوضات في لندن في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1915، حيث مثل البريطانيين السير مارك سايكس ومثل الفرنسيين فرانسوا جورج بيكو؛ وتم في نهاية المطاف صياغة الاتفاقية في كانون الثاني/يناير 1916.

وإلى أن تم الانتهاء من المفاوضات بين سايكس وجورج بيكو في كانون الثاني/يناير، لا يوجد سجل بأية اتصالات رسمية بين حكومة أسكويث والحركة الصهيونية. إن كان ثمة اتصالات، فقد أجريت على أساس شخصي وغير رسمي.

وعلى الرغم من أن مسودة الاتفاقية البريطانية – الفرنسية قوبلت بالانتقاد في وايتهول (مقر الحكومة البريطانية في لندن)، إلا أن الحكومة قررت التصديق عليها في السادس عشر من أيار/مايو 1916؛ أولا، لأنه لم يعتبر من اللائق المطالبة بمراجعات بينما فرنسا هي التي تحمل على كاهلها العبء الأكبر للحرب؛ وثانيا، بسبب فشل حملة غاليبولي. وينبغي التذكير، ربما، بأن البريطانيين في ذلك الوقت لم يكونوا قد حققوا تقدماً ذا بال، لا في الحملة العراقية ولا في الحملة في سيناء.

وقد تمت المبادرة بأول اتصالات رسمية بريطانية مع الصهاينة خلال الفترة المفصلية الواقعة ما بين تعميم مسودة اتفاقية سايكس بيكو على دوائر الدولة ذات العلاقة، والتصديق عليها.

الذي حفز على القيام بهذه الاتصالات هو ما ورد من ذكر لتطلعات اليهود الصهاينة في فلسطين ضمن الرد الانتقادي على مسودة اتفاقية سايكس بيكو والذي حرره الكابتن ريجينالد هول، رئيس الاستخبارات البحرية، في كانون الثاني/يناير 1916. وبعد شهر من ذلك، قام هيو أوبيرن، أحد أهم كبار المسؤولين في وزارة الخارجية، بتوزيع محضر يلخص رؤية وزرارة الخارجية بشأن الفوائد السياسية التي يمكن أن تعود على الحلفاء جراء تبني المصالح الصهيونية في فلسطين، سيما في الولايات المتحدة. ومنذ أن بدأ البحث عن طرق تمكن بريطانيا من التحلل من التزاماتها تجاه الفرنسيين في الشرق الأوسط، وحتى قبل التصديق على الاتفاقية، تحرك سايكس لاستطلاع الخيار الصهيوني.

كان البريطانيون يرون بأن المنطقة الواقعة جنوب الخط الممتد من شمال العراق إلى البحر المتوسط، أو من آخر E في عكا (Acre) إلى آخر K في كركوك (Karkuk)، كما أشار سايكس ذات مرة، ينبغي أن تخضع للسيطرة البريطانية. ولما كان واضحا بأن الاتفاقية مع الفرنسيين لن تحقق مثل تلك الرؤية، ساد الاعتقاد بأن جلب الصهاينة إلى الطاولة قد يتجاوز المطالب الفرنسية ويضمن أن يكون جنوب سوريا منطقة نفوذ بريطانية.

ما أشار أليه بعض المؤرخين من أن السياسة الصهيونية البريطانية إنما حفزتها معتقدات دينية ذات صلة بالنزعة الصهيونية لدى المسيحيين البروتستانتيين، فهي بعيدة الاحتمال. لقد كانت المقاربة البريطانية تجاه الصهاينة وليدة حسابات باردة، وامبريالية بحتة. فلا رئيس الوزراء أسكويث ولا وزير الخارجية إدوارد غراي، ولا الكاثوليكيين سايكس وأوبيرن، كان صهيوني الهوى؛ ومن بين أعضاء الحكومة اليهود في ذلك الوقت، وهما هيربرت صموئيل وإدوين مونتاغيو، كان أولهما فقط ذا علاقات صهيونية.

لم تثر مذكرة صموئيل في كانون الثاني/يناير 1915، والتي دعا فيها الحكومة إلى الأخذ بالاعتبار التطلعات اليهودية في فلسطين، كثيرا من الاهتمام. وكما أشار الراحل مايير فيريته، لم تتخذ حكومة أسكويث أي إجراء بشأن اقتراح صموئيل، ولم تعمم مذكرته على الدوائر المعنية، واحتفظ بها في أوراق مجلس الوزراء حيث ماتزل موجودة هناك. بالإضافة إلى ذلك، لم يتضمن تقرير دي بانسن في حزيران/يونيو 1915 أية إشارة إلى الصهيونية أو المصالح الصهيونية.

الحقيقة، أن سايكس لم يقم بأول اتصال صهيوني إلا بعد اطلاعه على ملاحظات هول ومحضر أوبيرن، حيث عقد لقاءات مع صموئيل وموسى غاستر في ربيع عام 1916، وفي وقت متأخر من ذلك العام التقى أهارون آرونسون. في نفس الوقت، وخلال الشهور التي سبقت تغير الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 1916، كان سايكس، وكذلك بعض المسؤولين في وزارة الخارجية، يدفعون بمختلف الأفكار التي استهدفت الاستجابة للتطلعات الصهيونية في فلسطين، مع العلم التام للسير إدوارد غراي بذلك.

لا دافيد لويد جورج، الذي حل محل أسكويث في رئاسة الحكومة، ولا آرثر بلفور، الذي حل محل غراي في وزارة الخارجية، قام بإحداث أي تغيير جوهري في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط. صحيح أن لويد جورج كان أشد حماسة تجاه التطورات في الجبهة الشرق أوسطية، وكان بشكل خاص يأمل في أن يزف بعض الأخبار السارة إلى الرأي العام البريطاني الذي أرهقه طول أمد الحرب وجسامة الخسائر التي تسببت بها. ولكن الصحيح أيضا أن النقاش حول التحلل من الالتزامات التي كانت بريطانيا قد تعهدت بها لفرنسا في الشرق الأوسط، وحول المصالح الصهيونية في فلسطين، كان قد بدأ قبل أن يتسلم لويد جورج رئاسة الحكومة. والأهم من ذلك، لم يقتصر الأمر على بقاء سايكس في خدمة الحكومة الجديدة ولكنه أيضاً رقي إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء.

في اجتماعها الذي انعقد في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر، صادقت حكومة لويد جورج على نص الإعلان الذي تقدم به وزير الخارجية إلى الصهاينة، علماً بأن النص كان قد خضع لإعادة الصياغة عدة مرات. اتخذ إعلان الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر شكل خطاب من بلفور إلى اللورد والتر روثتشايلد، أبرز شخصيات الجالية اليهودية في بريطانيا، ليتم إيصاله إلى الفيدرالية الصهيونية في بريطانيا العظمى وإيرلاندا، وجاء نصه على النحو التالي:

“تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي من البلدان الأخرى”.

ما من شك في أن مصطلح “الوطن القومي” يلفه الغموض. ومن المؤكد أنه لا يعني “الدولة”؛ وكما لاحظ جيمس غالفين، لا يوجد لذلك المصطلح سابقة في القانون الدولي. وما من زعيم صهيوني واحد تقريباً على مدى العقود اللاحقة، ولا أحداً من المسؤولين البريطانيين الذين تعاملوا مع قضية فلسطين، إلا وكان مدركاً للغموض الذي يكتنف المصطلح.

وحتى بعد تأسيس دولة إسرائيل، ظلت الشكوك تحوم حول المقصود من عبارة “وطن قومي”. ففي عام 1949 نشر في الكتاب اليهودي السنوي للقانون الدولي مقالاً من تأليف إيرنست فرانكستاين، البرفسور البارز في أكاديمية لاهاي للقانون الدولي، بعنوان “معنى مصطلح الوطن القومي للشعب اليهودي”. ورغم استخدامه لترسانة من البلاغة القانونية، إلا أن فرانكستاين لم يتمكن من إيجاد دليل قطعي واحد لإثبات أن إعلان بلفور كان يقصد به إنشاء دولة يهودية في فلسطين.

في واقع الأمر، جاء التوضيح البريطاني الأول للإعلان متضمنا في تقرير لجنة بيل في تموز/يوليو 1937، والذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية تتوحد فيما بعد مع شرق الأردن. إلا أن توصيات لجنة بيل لم يطل بها المقام، لأن لجنة أخرى برئاسة القاضي وودهيد توصلت في تشرين الثاني/نوفمبر 1938 إلى أن خطة التقسيم لم تكن عملية وأنها لم تكن قابلة للتطبيق.

أثناء زيارة بحثية قمت بها لمكتب السجلات الحكومي في بريطانيا قبل عدة أعوام، وقعت يدي على وثيقة مثيرة للاهتمام، تتضمن مراسلات جرت في مطلع عام 1919 بين اللورد بلفور، وزير الخارجية، وزميله في مجلس الوزراء اللورد كيرزن، الذي كان حينها يحتل منصب اللورد رئيس المجلس. ولربما من المفيد الإشارة هنا إلى أن كيرزن ما لبث في وقت متأخر من ذلك العام أن حل محل بلفور على رأس وزارة الخارجية.

حرر أول خطاب أرسله كيرزن إلى بلفور، الذي كان حينها في باريس للمشاركة في مؤتمر السلام، في السادس عشر من كانون الثاني/يناير 1919، وذلك بعد لقاء جمع كيرزن باللواء آرثر ويغرام موني، الموكل من قبل ألنبي لإدارة القدس. يقول كيرزن في خطابه إنه فهم من موني أن “حكومة يهودية من أي شكل يمكن أن تؤدي إلى انتفاضة عربية وأن تسعة أعشار السكان، والذين هم من غير اليهود، سوف يتعاملون بشكل سيء مع العبرانيين.” وفيما يعتبر مؤشرا على موافقته لموني في تقديره للموقف، أضاف كيرزن: “كما تعلم، أرى نفس الرأي، وطالما شعرت أن مزاعم وايزمان وصحبه مبالغ فيها وينبغي أن يوضع لها حد”.

بعد بضعة أيام، وتحديدا في العشرين من كانون الثاني/يناير، كتب بلفور الرد على رسالة كيرزن. كان خطاب بلفور قصيرا ولكنه واضح، مؤكدا على أن التعهد البريطاني للصهاينة لم يتضمن إقامة دولة يهودية. كتب بلفور يقول: “على حد علمي، لم يحصل بتاتا أن ادعى وايزمان أن اليهود يهدفون إقامة حكومة في فلسطين. مثل هذا الادعاء، في رأيي، مرفوض بكل تأكيد، وأنا شخصيا لا أعتقد أنه يتوجب علينا الذهاب إلى أبعد مما ورد في الإعلان الأصلي الذي كنت قد تقدمت به إلى اللورد روثتشايلد”.

في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير، كتب كيرزن خطابا ثانيا ومستفيضا، بين فيه لبلفور أنه “…. بينما يقول وايزمان شيئا معينا لك، وبينما تعني أنت شيئا محددا بعبارة وطن قومي، فإنه يسعى نحو تحقيق شيء مختلف تماما”.

وتعبيرا عن إحساس باليأس الذي كان ينتابه بسبب السياسة المتبناة تجاه فلسطين، بعث لورد كيرزن خطابا ثالثا إلى بلفور في الخامس والعشرين من آذار/مارس 1919، معلقا على قرار مؤتمر السلم إرسال بعثة تقصي حقائق أمريكية إلى الشرق الأوسط العربي. كتب كيرزن يقول: “إن الشيء الذي أود شخصيا أن تقوم به اللجنة هو تخليصنا من الوضع في فلسطين … لقد قلت لك من قبل إن الدكتور وايزمان قد خرج عن البرنامج المتواضع الذي اتفق معك عليه قبل عام أو أكثر بقليل، وأن طموحات الصهاينة باتت متجاوزة لكل الحدود.” وأنهى كيرزن مراسلاته بالتعبير عن الأمل في أن تقوم اللجنة الأمريكية، التي ستعرف فيما بعد باسم لجنة كينغ – كرين، بالتوصية على أن “الانتداب في فلسطين ينبغي أن يمنح لأي جهة أخرى بديلا عن بريطانيا العظمى”.

تلك كانت آراء اثنين من كبار أعضاء الحكومة البريطانية أثناء الحرب، وما بعدها مباشرة. كلاهما احتل منصب وزير الخارجية، وكان بلفور هو الذي ارتبط اسمه وإلى الأبد بالإعلان المشؤوم للصهاينة. وكلاهما كان في غاية الوضوح في التوكيد على أن الإعلان لم يكن يتعلق بتأسيس دولة يهودية في فلسطين.

ما من شك فيه أن إعلان بلفور كان مصدر كل الشرور في الشرق الأوسط العربي. ولكن ما يبدو، مع ذلك، أن تلك القطعة من الشر لم يكن يقصد بها توليد ذلك الكم الهائل من الشر الذي ابتليت به المنطقة منذ ذلك الحين.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
موافق